معلومات عامة

تاريخ صناعة الصابون – رحلة الغار من وإلى حلب

صناعة صابون الغار

صناعة صابون الغار

يعتبر صابون الغار، أو صابون حلب، واحداً من أقدم أنواع الصوابين صناعةً في التاريخ، وأعرق نماذج التراث غير المادّي المنتشر في سوريا عموماً وفي مدينة حلب خصوصاً منذ أكثر من مئات ولربّما آلاف السنين

رغم الأهمية الثقافية الكبرى التي تحملها صناعة صابون الغار في التراث السوري، لكن المصادر التي تؤرّخ صناعة صابون الغار أو تأتي على ذكرها تعتبر قليلة جداً بالمقارنة مع الأهمية العالية التي تحملها هذه الصناعة تاريخياً وثقافياً وعالمياً

 

تاريخ صناعة الصابونتمهيد من وثائق الصابون التاريخية عن علاقتها بصابون الغار الحلبي

لا توجد مصادر موثّقة معترف بها عن المرّة الأولى التي صُنِع فيها الصابون عموماً، وصابون الغار خصوصاً. يعود أول ذكرٍ أدبي للصابون إلى الحضارة السومرية، إذ وجدت نقوش (١) على لوح سومرّي بكتابة مسمارية، فحواه جاءت على لسان إنانا آلهة بلاد الرافدين، والتي تعرف عند البابليين والأكّاديين والآشوريين باسم عشتار أو عشتروت: “كنت أستحمكنت أغسل نفسي بالصابون“. 

وجاءت أول وصفة لصناعة الصابون على نقوش بابلّية في العام 2800 ق.م، ثمّ على لوح طيني سومري عام 2500 (٢) ق.م: “يصنع الصابون عبر تسخين مزيج من الزيت ورماد الخشب، إذ كانت تستخدم الوصفة لتنظيف الملابس المصنوعة من الصوف

وجاء في كتاب (٣) المورّخ البريطاني ريجينالد كامبيل ثومبسون، الذي درس المنقوشات الآشورية القديمة، وصفاً لابتهال بابلّي قديم: “عسى أن تنظفني الطرفاء، حيث تنمو أوراقها عالياً، عسى أن تحررني النخلة، التي تصد كل ريح، عسى أن تنظفني نبتة المستكال، التي تملأ الارض، عسى أن يحررني كوز الصنوبر، المليء بحب الصنوبر“. إذ يوضّح أن وصفة الصابون في الابتهال تعتمد على ثلاثة عناصر: المادة القلوية والملح وصمغ الصنوبر، والمادة القلوية تعتمد على نبتة الطرفاء التي تنتشر في بلاد حوض المتوسط خصوصاً

وجاء في كتابهمعجم النبات الآشوري” (٣) أيضاً، تعريفاً لكلمةأخلوفي اللغة الأكّادية (3000 ق.م)، والتي تعني محلول القلي الذي يستخدم عند صناعة الصابون، ويعني بالعربيّة نبتة الشّنان أو الترتير أو العجرم، وأكثر انتشاراً وشهرةً هو الشنّان السوري Anabasis syriac، المستخدم في صناعة صابون الغار الحلبي

ويذكر أنّه في عصر الملك البابلّي نبو نائيد (قرابة 550 ق.م)، اعتمدت تركيبة صناعة الصابون (٤) على ثلاثة عناصر جديدة وهي: الرمادزيت شجرة السرووزيت السمسم. وينتشر شجر السرو في بلاد الشام خصوصاً

وجاء في بردية إبيرس المصرية (1500 ق.م) أن المصريين القدماء استخدموا الصابون لعلاج الأمراض، واعتمدوا في صناعته على مزج الزيوت النباتية والحيوانة مع رماد الصودا القلوي (٥)، الذي يعرف باسم الكوستيك، ويعتبر مكوّناً أساسياً في صناعة صابون الغار

واعتمدت بلاد المشرق (التسمية التاريخية لما يُعرف اليوم باسم الشرق الأوسطسوريا خصوصياً) في صناعتها للصابون (٦) على زيت الزيتون، إذ كان الزيت يُغلى لعدّة أيام في مِرجَل نحاسي، ثم يضاف إليه الرماد القلوي (الأشنان أو غيرها)، ويُقلّب باستمرار. وبمجرّد أن يبدأ بالتكاثف، يُسكب المزيج في قالب ويترك ليبرد ويتماسك، ثمّ يقطّع إلى مكعبات صغيرة

وجاءت في كتاب الأسرار للعلّامة أبو بكر الرازي (864 – 923 م.) وصفات متعدّدة لصناعة الصابون. (٧)

تاريخ نبات الغارخصوصية تاريخية في الشمال والساحل السوري

يعود أول ذكر لنبات الغار إلى الحضارة الإغريقية القديمة، تحديداً عن الشاعر الإغريقي بارثينيوس (٨) الذي كان أول من تحدّث عن أسطورة الإله أبولو ودافني في القرن الأول قبل الميلاد. لكن النسخة الأكثر شهرة للأسطورة قدّمها الشاعر الروماني أوڤيد في كتاب التحولات Metamorphoses في القرن الثامن ميلادي. تروي الأسطورة قصة الإله أبولو حين رأى الطفل أيروس، إله الحب وهو يسوّي أوتار سهمه، فقال له ساخراً أن رمي السهام هي مهمّة الرجال مثل أبولو وليس الأطفال للقضاء على الأعداء. غضب إيروس من تعليقات أبولو، فقرر أن يذيق أبولو طعم المراراة، وأطلق عليه السهم الذهبي الذي يجعل المُصاب يقع في حب أحدهم بشدّة. ثمّ أطلق السهم الرصاصي المضاد، على الحورية دافني، الذي يجعل الشخص المُصاب يكره الشخص الآخر بشدّة. ونتيجة تعويذة الحب، وقع أبولو في حب دافني بشكل جنوني، التي في الوقت عينه باتت تكره أبولو كثيراً، وظلّ أبولو يطاردها محاولاً جعلها تقع في حبّه ولو بالإكراه. قرّرت دافني التخلّص من أبولو مهما كلّفها الأمر، فلجأت إلى والدها بينيس، إله النهر، الذي حوّلها إلى شجرة غار حتّى يخلّصها من ملاحقة أبولو

وهذا هو سبب تسمية الغار في كثير من لغات العالم باسمدافني Daphne”، تيمنّا بأسطورة أبولو ودافني

فيما بعد، بدأت أوراق الغار تستخدم لتكريم الفائزين في الألعاب البيثية، واحدة من الألعاب الهيلينيستية الأربعة الشهيرة، على شرف أبولو الذي بدأها بقتل بايثون، كون الغار يرتبط بشكل أساسي مع أبولو. (٨

وفي الحضارة الرومانية، وردت أسطورة أبولو ودافني أيضاً مع اختلاف الأسماء الشائع بين آلهة الإغريق وآلهة الرومان. وكان الغار أيضاً يقدّم كدلالة على الانتصار والخلود. فيما بعد، بدأ الغار يرتبط كثيراً بالأباطرة، وأولهم الإمبراطور أغسطس، الذي جعل من شجرتي غار كبيرتين يكوّنا مدخل بيته في روما. (٩) وكان بعده الإمبراطور طرابيوس قيصر يلبس إكليل الغار عند الظروف الجوية السيئة، للاعتقاد الشائع أنّ  الغار يحمي من ضربات الرعد كونه لا يحترق بسهولة في النار. (١٠

يعتبر الموطن الأصلي لنبات الغار laurus noboilis هو حوض المتوسط، وينتشر في الشمال والساحل السوري، في مناطق مثل كسب وإدلب وقرية عين الغارة التي تحمل اسم نبات الغار.  

كيف إذاً نشأ صابون الغار في حلب؟دراسة تحليلية ووثائق مؤرّخة

كما الصابون العادي، لا توجد وثائق دقيقة عن المرّة الأولى التي صنع واستخدم فيها صابون الغار الحلبي

تعتبر مدينة حلب واحدة من أقدم المدن المأهولة في التاريخ، إذ تعاقبت عليها العديد من الحضارات، مثل الآرامية والآشورية والفارسية والهلنستية والرومانية والبيزنطية والإسلامية. ويعود الذكر الأول لمدينة حلب إلى الألواح المسمارية المكتشفة في مملكة إيبلا (3500 ق.م) (١١) ونقوش أور في الحضارة الأكادية (3000 ق.م) إذ كانت تعرف باسم (حال) أو (آبا) أو (أرمان) (١٢). وتأتي أهمية حلب الكبيرة لوقوعها على مفترق طرق تجارية عديدة منذ الألفية الثانية قبل الميلاد. (١٣)

إذا نظرنا إلى الوثائق التاريخية آنفة الذكر عن تاريخ صناعة الصابون، نجد أن مدينة حلب كانت مأهولة ومتاخمة لحضارات ما بين الرافدين، مثل المملكة السومرية صاحبة أول توثيق لوحي لصناعة الصابون (2500 ق.م) عبر استخدام الزيت ورماد الخشب (المادّة القلوية)، والإمبراطورية الأكاديّة التي وصفت المادة القلوية لصناعة الصابون والغسيل وتعني بالعربية الشنّان، وهو نبات منتشر كثيراً في سوريا ومن أنواعه الشنّان السوري بشكل خاص

لا توجد وثائق دقيقة توضّح فيما إذا كانت صناعة الصابون قد انتقلت من مدينة حلب إلى الممالك والإمبراطوريات المحيطة، أو أنها انتقلت إلى حلب، عبر الطرق التجارية. وكما ذُكرت الصودا لأول مرّة في البردية المصرية القديمة، من الممكن أنها انتقلت إلى حلب أيضاً عن طريق الطرق التجارية، وشاع استخدامها أحياناً في صناعة صابون الغار الحلبي

ويشاع أن صابون الغار كان يمثّل ترفاً وخصوصيةً ملكية، إذ كانت تستخدمه الملكة كليوباترا ملكة مصر المقدونية (51 – 30 ق.م) والملكة زنوبيا ملكة تدمر (267 – 273 م). 

تحوّرت بعدها صناعة الصابون الموثّقة في عصر الملك البابلي نبو نائيد، وباتت تشمل ٣ عناصر وهي الرماد وزيت السرو وزيت السمسم. إذا نظرنا إلى هذه التركيبة، نجد أنّها تركيبة قريبة جداً من صناعة صابون الغار الحلبي مع اختلاف النباتات المستخدمة. فالرماد الذي جاء في جميع الوصفات التاريخية المذكورة على اختلافها، يمثّل المادّة القلوية. ومن المرجّح أنّ زيت السرو استبدل بزيت الغار كون نبات الغار منتشر في الشمال السوري تحديداً، كحلب وإدلب وبعض المناطق السورية الأخرى، ونُقلت أهمية الغار الكبيرة عند حكم حلب من قبل الدولة الرومانية والهلّنستية اللتان قدّستا نبات الغار. وأمّا عم زيت السمسم، فمن المرجّح جداً أن زيت الزيتون كان العنصر الأمثل للاستخدام، نظراً لانتشاره الواسع جداً في مدينة حلب، إضافةً إلى خصائصه الكبيرة. من الممكن أيضاً أن هذه الوصفة انتقلت من حلب إلى بابل، مع استبدال العناصر بما هو مناسب ومنتشر ضمن البيئة الجغرافية لبلاد الرافدين. ونرى أن الطريقة التي وصفت فيها صناعة الصابون في بلاد المشرق آنفاً، هي تماماً الطريقة التي يُصنع فيها صابون الغار الحلبي منذ أولى صناعته وحتى اليوم. (٢٠)

انتشرت فيما بعد تجارة صابون الغار من حلب إلى المناطق المجاورة مثل مناطق بلاد الشام الأخرى وشبه الجزيرة العربية وبلاد الرافدين، وسرعان ما أدرك الأوروبيون أهمية صابون الغار بجودة صنعه وخصائصه المتعددة في التنظيف والعناية بالجسم وغيرها. فانتشر صابون الغار بعدها إلى شرق وجنوب آسيا، وثمّ إلى أوروبا بعد تأثير الحضارات المتعاقبة الحاكمة لحلب ومرور القوافل التجارية عبرها إضافةً إلى تأثير الحروب الصليبية، ليحوّر الأوروبيون بعدها صناعة الصابون وينتجوا تركيباتهم الخاصّة المستوحاة من صابون الغار الحلبي، خصوصاً في فرنسا واسبانيا وإيطاليا في القرن السابع ميلادي. (١٤)

وجاء في كتاب سوفاجيه توثيقاً للأهمية الاقتصادية الكبيرة التي حملتها المصابن والحمامات في دخل حلب التجاري في عهد حكم السلاطين الأيوبيين (٥٩٠ ميلادي). (١٣) ولربّما يعزى التطور في صناعة الصابون في الحقبة التي حكم فيها المسلمون حلب إلى اهتمام الحضارة الإسلامية الكبير ببناء الحمّامات واعتبارها منشآت ذات أهمية تضاهي أهمية بناء القصور. (١٥) وتطوّرت صناعة الصابون ليصار بيعه ضمن سوق خاصّة كانت تعرف باسم السوق القديم المتنقّل (٦٤٦ م)، وزاد معها عدد المصابن بشكل كبير ليبلغ عددها أكثر من ٢٠ سوق عام ٦٥٣ ميلادي، وأخدت تجارة الصابون تزدهر لتصدّر إلى أماكن بعيدة. (١٣) وعادت صناعة الصابون إلى الواجهة من جديد في عهد الدولة العثمانية، حتى باتت صناعة الصابون صناعة خاصة ذات مصانع كبيرة (٨٢٨ م)، وقد بلغت إيرادات خزينة حلب من تجارة الصابون ١٠ آلاف فرنك في عهد يوسف الثاني الأيوبي. (١٦) وبلغت واردات خزينة الدولة العثمانية من حلب من وزن الزيت والصابون في سوق الصابون أكثر من ٤٠ ألف فرنك (١٧). وجاء أيضاً أن الحلبيين من جميع المِلل كانوا يمتهنون صناعة الصابون، وكان فيها قرابة 15 مصبنة تعمل على طبخ الصابون من كانون الأول وحتى أيار، وتبلغ الكمية السنوية 400 طبخة بمعدل وزن 14 قنطار و65 رطل للطبخة الواحدة، (قرابة 3500 كغ) وأن الحلبيين ما زالوا محافظين على هذه الصنعة بأمانة ودون غش ولذلك كانت تجارة الصابون الحلبي أكثر نجاحاً من أي منطقة أخرى. (١٨)

ويوجد ضمن المدينة القديمة في حلب، خان مخصّص لتجّار الصابون، يحمل اسمها ويدعى خان الصابون، وقد بني في العهد المملوكي قرابة 1492، يقع بين الجامع الأموي الكبير في حلب وبين خان الوزير. وفي حلب أيضاً محلة تدعى محلة المصابن، بين سويقة حاتم وسويقة علي، كان فيها 128 بيت، وسمّيت بهذا الاسم لما كثر فيها من مصابن حتى أنّه كان يظهر في زقاقها آباراً للزيت. (١٩)

المصادر

(١) أول ذكر للصابون على النقوش: علي الشوكالحياة – 1998

(٢) أول وصفة لصناعة الصابون: كتاب Poucher’s Perfumes, Cosmetics and Soaps – H.Butler – 2000

(٣) R.C Thompson – Dictionary of Assyrian Chemistry and Geology – 1936 

(٤) Gypsum, Salt and Soda in Ancient Mesopotamian Chemical Technology – Martin Levey – The University of Chicago Press – 1958

(٥) Surfactants in Consumer Products – Jürgen Falbe – 2012

(٦) Amnon Cohen – Economic Life of Ottaman Jerusalem – Cambridge University Press – 1989

(٧) أبو بكر الرازيكتاب سرّ الأسرار في الطب والكيمياء

(٨) L. Lightfoot, tr. Parthenius of Nicaea: the poetical fragments and the Erōtika pathēmata – 1999 

(٩) Annette Giesecke – The Mythology of Plants: Botanical Lore from Ancient Greece and Rome – 2014

(١٠) Suetonius – كتاب Galba

(١١) Britannica Concise Encyclopedia

(١٢) فريد جحاترجمة لكتاب دراسة توسع مدينة سورية منذ نشأتها حتى منتصف القرن التاسع عشرجان سوفاجيه 

(١٣) WHC UNESCO – Ancient City Of Aleppo

(١٤) Cleaning Institute – SOAPS & DETERGENTS HISTORY

(١٥) ابن خلدونكتاب المقدّمة – 1377

(١٦) ابن شدّادالدار المنتخبسوفاجيه

(١٧) الأرشيف الوطني التركيعمر لطفي

(١٨) نهر الذهب في تاريخ حلب، الجزء الأولكامل بن حسين بن مصطفى بالي الحلبي (الغزّي) – 1853

(١٩) نهر الذهب في تاريخ حلب، الجزء الثانيكامل بن حسين بن مصطفى بالي الحلبي (الغزّي)

(٢٠) Developing Markets for Agrobiodiversity – Alessandra Giuliani – 2007

 

للمزيد:

6 أسباب تجعلك تختار الصابون الطبيعي والمصنوع يدوياً

المقالات المشابهة